تقرير_ إيمان الجندي
عندما تناقش المنظمات الدولية ملف صحة المرأة، فإنها غالبًا ما تبدأ بالأرقام المقلقة: وفيات يمكن تجنبها، أمراض تُكتشف متأخرًا، وفجوة واضحة بين النساء والحق في الرعاية الصحية العادلة. هذه الصورة العالمية لا تنفصل عن الواقع في الدول النامية، لكنها تطرح في الوقت نفسه سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن تحويل هذه التحديات من أزمات مزمنة إلى سياسات قابلة للتغيير؟
في هذا السياق، تبرز التجربة المصرية بوصفها محاولة عملية للإجابة عن هذا السؤال.
المشهد العالمي: لماذا أصبحت صحة المرأة قضية أولوية؟
وفق تقارير منظمة الصحة العالمية، لا تزال صحة المرأة تعكس اختلالات هيكلية في النظم الصحية حول العالم. فمئات الآلاف من النساء يفقدن حياتهن سنويًا بسبب مضاعفات الحمل والولادة، بينما تتحول الأمراض غير السارية، مثل سرطان الثدي وأمراض القلب، إلى أسباب رئيسية للوفاة بين النساء، خاصة في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل.
ويرى خبراء الصحة الدولية أن المشكلة لا تكمن فقط في نقص العلاج، بل في غياب الوقاية والكشف المبكر، وتأخر وصول النساء إلى الخدمات الصحية، إلى جانب ضعف التوعية الصحية. ولهذا السبب، بات التركيز العالمي يتجه نحو سياسات شاملة تقوم على الوصول المبكر، والرعاية الأولية، ودمج صحة المرأة ضمن استراتيجيات التنمية.

من التحدي العالمي إلى التطبيق المحلي: أين تقف مصر؟
في مواجهة هذه التحديات نفسها، تبنّت مصر خلال السنوات الأخيرة مقاربة صحية تتماشى مع التوجهات الدولية، لكن بصيغة تنفيذية واسعة النطاق. فبدل الاكتفاء بالخطاب الصحي، انتقلت الدولة إلى ترجمة التوصيات العالمية إلى مبادرات ميدانية تستهدف المرأة بشكل مباشر.
وأبرز هذه الخطوات تمثلت في إطلاق المبادرة الرئاسية لدعم صحة المرأة المصرية عام 2019، والتي استهدفت الكشف المبكر عن سرطان الثدي والأمراض غير السارية، وتقديم خدمات الفحص والعلاج والتوعية بالمجان، في جميع محافظات الجمهورية.
الأرقام كأداة قياس: ماذا تغيّر على أرض الواقع؟
في الوقت الذي تؤكد فيه منظمة الصحة العالمية أن الكشف المبكر هو العامل الحاسم في خفض وفيات النساء، تُظهر البيانات المصرية نتائج لافتة:
وصول المبادرة إلى نحو 70 مليون زيارة من السيدات منذ انطلاقها، وهو رقم يعكس توسعًا غير مسبوق في نطاق الفحص الصحي.
إجراء مئات الآلاف من فحوصات الماموجرام للكشف المبكر عن سرطان الثدي، وتحويل الحالات المكتشفة للعلاج المجاني.
إتاحة الخدمات عبر أكثر من 3,600 وحدة صحية و100 مستشفى، بما يقلص الفجوة الجغرافية التي تعاني منها نساء كثيرات عالميًا.
هذه الأرقام تضع مصر في موقع متقدم مقارنة بالعديد من الدول ذات الدخل المتوسط، حيث لا تزال خدمات الكشف المبكر محدودة أو محصورة في المدن الكبرى.
الصحة الإنجابية: تقاطع عالمي واستجابة مصرية
عالميًا، تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن تمكين النساء من خدمات الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة يسهم في خفض وفيات الأمهات وتحسين جودة الحياة. وفي هذا الإطار، تُظهر البيانات المصرية ارتفاع نسبة استخدام وسائل تنظيم الأسرة إلى أكثر من 66% بين السيدات المتزوجات، بالتزامن مع انخفاض معدل الإنجاب، وهي مؤشرات ترتبط مباشرة بتحسن الصحة الإنجابية وتقليل المخاطر الصحية.
ويرى مختصون أن هذه النتائج تعكس تحولًا في وعي النساء، مدعومًا بتوافر الخدمة، وهو ما يتماشى مع التوصيات الدولية التي تشدد على أن الوعي وحده لا يكفي دون إتاحة فعلية للخدمات.
تؤكد وزارة الصحة أن التركيز على صحة المرأة أصبح جزءًا من سياسة صحية مستدامة، تهدف إلى الانتقال من العلاج إلى الوقاية، وتقليل العبء طويل الأمد للأمراض المزمنة.
و يرى خبراء صحة عامة أن ما تحقق في مصر يمثل نقلة نوعية في حجم الوصول والتغطية، مع التأكيد على أن التحدي المقبل يتمثل في تعميق جودة الخدمة، وإدماج الصحة النفسية، واستمرار التقييم بالأثر لا بالأرقام فقط.

مصر في الخريطة العالمية لصحة المرأة
عند وضع التجربة المصرية في سياقها الدولي، يتضح أن مصر لم تنفصل عن التحديات العالمية، لكنها اختارت التعامل معها بأدوات تنفيذية مباشرة. ففي حين لا تزال دول كثيرة تناقش سبل الوصول إلى النساء، نجحت مصر في بناء نموذج يعتمد على الوصول الواسع، والكشف المبكر، والعلاج المجاني، وهو ما ينسجم مع المعايير التي توصي بها المؤسسات الصحية الدولية.
وتبقي كلمة تكشف المقارنة بين صحة المرأة عالميًا ومكانتها في مصر أن التقدم لا يتحقق بالشعارات، بل بالسياسات القابلة للقياس. وبينما يظل الطريق طويلًا نحو العدالة الصحية الكاملة، تُظهر التجربة المصرية أن الاستثمار في صحة المرأة يمكن أن يتحول من استجابة للأزمات إلى نموذج وقائي مستدام. فصحة المرأة ليست ملفًا منفصلًا، بل مرآة لمدى التزام المجتمع بحقوقه الأساسية




