في أروقة محاكم الأسرة المصرية لا تحسم النزاعات بنصوص قانونية جامدة فحسب بل بمبدأ إنساني عميق أصبح ركيزة دستورية وقانونية إنه “المصلحة الفضلى للطفل”.
هذا المبدأ لم يعد مجرد توجيه أخلاقي بل هو معيار قانوني دقيق يغير مسار القضايا ويضع الطفل في صميم أي قرار قضائي ليصبح هو المحور والغاية
الدستور يرسخ المبدأ: “مصلحة الطفل” حصانة قانونية.
لم يعد الاهتمام بالطفل مجرد رفاهية اجتماعية بل هو التزام وطني راسخ فالدستور المصري في المادة (80) يضع هذا المبدأ في أعلى مراتب الإلزام حيث ينص بوضوح على أن”مصلحة الطفل الفضلى هي الأساس في كل الإجراءات المتعلقة به”
هذا النص الدستوري يمنح المبدأ قوة قانونية مطلقة فضلا عن كونه يجعله المرجعية الأولى التي لا يمكن لأي تشريع أو قرار قضائي أن يتجاوزها مانحا إياه حصانة فريدة.
قانون الطفل: الحبر الذي كتب به مصير الأجيال
يأتي قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته اللاحقة ليكون الأداة التنفيذية لهذا الإلزام الدستوري
فالمادة (3) من القانون تنص بوضوح لا يقبل التأويل على أن “مصلحة الطفل الفضلى فوق أي اعتبار آخر” هذا النص هو الذي يحكم كافة جوانب حياة الطفل القانونية لاسيما تلك المتعلقة بالنزاعات الشائكة كقضايا الحضانة والرؤية وصولا إلى القرارات المصيرية الخاصة بتعليمه ورعايته الصحية
وقبل أن يصل الملف إلى القاضي يمر عبر محطة قانونية لا غنى عنها: نيابة شؤون الأسرة
فالنيابة هنا لا تلعب دور الخصم بل دور “الأمين على مصالح الصغير”
فهي تدرس أوراق الدعوى بعناية وقد تستمع للأطراف وتقدم للمحكمة مذكرة برأيها الفني والقانوني
ورغم أن رأي النيابة استشاري بيد أنه يحظى بتقدير كبير من القاضي لأنه يمثل صوتا محايدا هدفه الأوحد هو حماية حقوق الطفل وضمان مصلحته الفضلى
في محراب العدالة: كيف يترجم القاضي “المصلحة الفضلى “؟
في ساحات المحاكم لا يتعامل القضاة مع “المصلحة الفضلى” كقالب جامد.
بيد أن التحدي الحقيقي يكمن في كونه معيارا مرنا يتشكل وفقا لظروف كل طفل وأسرة فالمصلحة ليست واحدة للجميع بل هي نتاج تقييم دقيق لعدة ركائز أساسية أهمها:
-السلامة والاستقرار: حيث يسعى القاضي لضمان بيئة آمنة للطفل جسديا ونفسيا بعيدا عن أي شكل من أشكال العنف أو الإهمال فضلا عن حرصه على استقراره المعيشي والتعليمي وتجنيب مستقبله أي اهتزاز
-العلاقة بالوالدين: يوازن القضاء بحكمة بين حق الحاضن في الرعاية اليومية وحق الطرف الآخر في علاقة قوية ومستمرة مع الطفل بما يخدم توازنه النفسي وصحته العاطفية
-رأي الطفل: في بعض الحالات لاسيما بعد أن يبلغ الطفل سن التمييز يأخذ القاضي برأيه في الاعتبار شريطة أن يكون هذا الرأي نابعا من إرادة حرة وغير خاضع لتأثير أو ضغط.
ولأن عين القاضي وحدها قد لا تكفي لكشف كل جوانب الحقيقة الإنسانية والاجتماعية فقد منحه القانون أدوات فنية دقيقة ليستعين بها في رحلته للبحث عن مصلحة الطفل
يأتي على رأس هذه الأدوات تقارير الخبراء الاجتماعيين والنفسيين الذين تنتدبهم المحكمة للغوص في تفاصيل حياة الأسرة
هؤلاء الخبراء لا يكتفون بالجلوس في قاعات المحاكم بل يزورون منازل الأطراف ويقيمون البيئة المعيشية ويجرون حوارات معمقة مع الوالدين والطفل نفسه ليقدموا في النهاية تقريرا فنيا مفصلا هذا التقرير يصبح بمثابة بوصلة إضافية ترشد القاضي وتساعده على بناء قراره على أساس علمي وموضوعي لا على مجرد انطباعات عابرة.
وتدعم هذه العملية آليات مساعدة حيوية كلجان حماية الطفولة وخط نجدة الطفل (16000) التي تمثل شبكة أمان للتدخل السريع لحماية الأطفال من أي خطر محدق.
وهذا المبدأ ليس مجرد حبر على ورق بل هو واقع يقلب موازين القضايا يوميا
فعلى سبيل المثال قد تسقط الحضانة عن أم تزوجت إذا ثبت أن زوجها الجديد لا يؤتمن على الصغير فتتغلب مصلحة الطفل في الأمان على حق الأم وفي حالة أخرى قد تنقل الولاية التعليمية من الأب إلى الأم إذا أهمل تعليم أبنائه أو اختار لهم مسارا تعليميا يضر بمستقبلهم فضلاً عن أن المحكمة قد ترفض سفر الطفل مع الحاضن إلى الخارج إذا كان في ذلك قطع لصلته بالطرف الآخر
كل هذه القرارات تؤكد أن النص القانوني الجامد يتوارى حين تتعارض مصلحة الطفل معه.
صدى عالمي: المواثيق الدولية تدعم حقوق الطفل في مصر
ولم تترك مصر أطفالها بمعزل عن الحماية العالمية بل عززت درعهم القانوني بالانضمام إلى أهم المواثيق الدولية لاسيما اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل لعام 1989
هذه الاتفاقية ليست مجرد وثيقة رمزية فبموجب المادة (93) من الدستور المصري أصبحت جزءا لا يتجزأ من نسيج القانون الوطني
وماذا يعني هذا عمليا؟
يعني أن المحامي يستطيع أن يستند إلى نصوص الاتفاقية الدولية مباشرة في دفاعه وأن القاضي ملزم بتطبيقها
فضلا عن أن هذا الالتزام الدولي يضع على الدولة المصرية مسؤولية مستمرة لمواءمة تشريعاتها وسياساتها مع أفضل المعايير العالمية لحماية الطفل مما يضمن أن مبدأ “المصلحة الفضلى” يظل مبدأ حيا ومتطورا لا مجرد نص جامد.
ما وراء القانون: دعوة لمجتمع يضع أطفاله أولا
في نهاية المطاف يتجاوز مبدأ “المصلحة الفضلى للطفل” كونه أداة قانونية لحل النزاعات إنه دعوة صادقة للمجتمع بأسره لتبني ثقافة تضع الأطفال ومستقبلهم فوق كل اعتبار في كل خلاف أسري وفي كل قرار يجب أن يكون السؤال الأول والأخير “ما هو الأفضل لهذا الطفل؟”
إن الالتزام بهذا المبدأ هو الضمانة الحقيقية لبناء جيل سليم نفسيا وجسديا قادر على بناء مستقبل مشرق بعيدا عن ندوب صراعات الكبار.
