شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية في طريقة نمو وتفاعل الأطفال مع العالم المحيط بهم، بعد أن أصبحت السوشيال ميديا جزءًا ثابتًا من تفاصيل الحياة اليومية، ومع اتساع نفوذ المنصات الرقمية تبدلت ملامح الطفولة من اللعب في الشوارع والحدائق إلى شاشات مضيئة، وعيش متواصل داخل عالم افتراضي لا يهدأ، وهو ما يطرح سؤالًا مهمًا: هل ما زالت الطفولة “تُعاش” أم أصبحت “تُتابع” عبر الإنترنت؟.
طفولة الأمس… حياة تُقاس بالضحك لا بـ”عدد المشاهدات” كانت الطفولة التقليدية تجربة قائمة على الحركة والاكتشاف والمغامرات الصغيرة التي يبدأها الطفل من باب المنزل ولا تنتهي حتى غروب الشمس، وألعاب بسيطة مثل “الاستغماية” و“نط الحبل” و“الجلّة” خلقت صداقات حقيقية، ومواقف ممتلئة بالتجارب، والتعلم الفطري، والتواصل المباشر، ولم تكن هناك صور “سيلفي” ولا “فلاتر”، بل وجوه يغطيها التراب وركب مخدوشة من كثرة الجري… ضحك لا يحتاج إلى تسجيل، وذكريات تُحفر في الذاكرة لا في ذاكرة الهاتف.
طفولة اليوم… عالم رقمي مزدحم ينمو بسرعة أكبر من الأطفال، فاليوم يعيش الطفل في واقع مختلف تمامًا؛ جهاز لوحي في يد، وهاتف ذكي في اليد الأخرى، ومنصات التواصل الاجتماعي أصبحت نافذة على العالم، ومن خلالها يتعرف الطفل على الألعاب واللغة والمفاهيم والعلاقات، والمثير أن الطفل يمتلك اليوم عددًا من المتابعين أكثر مما لدى بعض صناع المحتوى في بداية مسيرتهم، يلعب عبر الإنترنت، ينافس، يتشارك، ويكوّن صداقات كلها تتم داخل فضاء افتراضي قد لا يرى فيه صديقًا واحدًا وجهًا لوجه، ومدارس كثيرة أصبحت تعتمد على التكنولوجيا، والمعارف تُكتسب عبر الفيديوهات القصيرة، والضحك يُكتب “هههه” بدل أن يُسمع، وحتى المشاجرات أصبحت تُحل بحظر المتابعين، لا بحوار مباشر أو اعتذار.
وهل مواقع التواصل الاجتماعي شر مطلق؟ الحقيقة أن الإجابة ليست بهذه البساطة، فمواقع التواصل منحت الأطفال فرصًا كبيرة للتعلم، وكشفت لهم مجتمعات وثقافات لم يكن الوصول إليها ممكنًا، كما ساعدتهم على تطوير مهارات في الكتابة والتصميم والتفكير التفاعلي، ولكن الوجه الآخر لا يمكن تجاهله؛ عالم بلا رقابة قد يخلق طفولة منزوعة التجربة الواقعية، وتعلقًا بالمظاهر الرقمية، وتأثرًا بالمقارنات، وتواصلًا سطحيًا قد يطغى على العلاقات الإنسانية الطبيعية.
ومن المسؤول؟ التكنولوجيا ليست خصمًا، لكنها تحتاج إلى إدارة، الأسرة والمدرسة والمجتمع مطالبون بتقديم توجيه لا حرمان، ومشاركة لا مراقبة خانقة، وفرصًا للطفل ليمارس طفولته على الأرض كما يمارسها أونلاين.
الطفولة بين عالمين… والميزان هو الحل لا يمكن أن نعيد العالم إلى ما كان عليه، ولا يمكن أن نترك الطفل يختفي داخل الشاشة، المطلوب أن نحافظ على طفولته الواقعية، ونسمح له بالاستفادة من الرقمية معًا، وأن نمنحه تراب الحديقة وحرية الحركة، وفي الوقت نفسه نزوده بمهارات العيش في عالم متسارع لا ينتظر أحدًا.
والخلاصة الطفولة اليوم ليست افتراضية ولا واقعية بشكل كامل، بل مزيج دقيق من الاثنين، طفولة قد يضحك فيها الطفل عبر شاشة… لكنه لا يزال قادرًا على الضحك في الشارع أيضًا إذا منحناه المساحة، وربما الأهم هو أن ندرك أن لكل جيل طفولته الخاصة… لكن ما يحدد قيمتها ليس شكلها، بل مقدار ما تُضيفه لروح الطفل وقلبه وذكرياته.
هل ترى أن طفولة اليوم أكثر غنى أم أكثر فقرًا؟
الجدل لا يزال مفتوحًا،… وللحديث بقية مع دكتور أحمد هندي.



