📅 ... 🕒 ...

دكتور حامد بدر يكتب: “بنت الشاطئ” المرأة المصرية كما وجَبَ أنْ تكُون

تقلِّبُ اليد يُمنةً ويسرى في مضامين التواصل الاجتماعي، فتقع العين على تسجيل مصوَّر قديم للراحلة الدكتورة عائشة عبد الرحمن، الشهيرة بـ بنت الشاطئ، وهي في حديث أمام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ذاك الحضور الآسر وتلك الثقافة الرفيعة التي ملأت أرجاء مقر الاتحاد الاشتراكي. ما يقرب من عشر دقائق كاملة انطلقت فيها بنت الشاطئ تستعرض قضايا الوطن ومواطن ذلك العصر من منظور أكاديمي راقٍ، يفهمه المتخصص كما يفهمه البسيط، يستوعبه القارئ كما يستوعبه متواضع الاطّلاع، خطاب وطني واعٍ خرج من فَمِ امرأة أدركت دَوْر الكلمة وقيمة المعرفة.

عن رصانة الحديث الذي ظل دقائق مسار استماع دون كلل أو ملل من المتحدِّث أو السامع.. عن نَبْرة الصوت “يا أخي جمال”، ينسابُ وَدُودًا نحو الآذان بكل وقار وأدب، قويًا بما يكفي للصراحة والوضوح. ربما طبيعة الحياة الفكرية والثقافية كانت في مصر لم تزل متوهجة بذلك الطابع الأصيل في طلائع الشباب، من الرجال والنِّساء، إلَّا أنَّ هذا المضمون والشكل نحتاجه اليوم في حياتنا المصرية المعاصرة، لا سيَّما في وقت تعاني فيه المرأةُ المِصريَّة من تشويش ربما يقوده أو تقوده نماذج تسْعى نحو اختطافها إلى أضواء الشهرة وأحدث الصيحات والموجات الترندية، عبر فضاء التواصل الاجتماعي.

حين ننظر إلى نساء هذا الجيل في الحقبة الستينية ونرى ما كُنَّ عليه من الجمع بين البلاغة واللَّباقة واللِّياقة الشخصية والحُضور، نعرف أن مصر كانت تمتلك ثروة من طاقات بشرية وشبابية منذ زمن، ولا تزال تملك – وإن خَفَتَ ضوءه ولمعانه – ما يؤهلها للبقاء في مقدمة الصف الثقافي، بطليعة متطلعة إلى ريادة حقيقية، تنظر إلى الواقع بمسؤولية الناضج وعيون الإنسان الواعي بتاريخٍ وحاضرٍ وطموحٍ نحو مستقبل مشرق، وَجَبَ أن يكون.

وحين نعود إلى أصل المسير، نجد في الدكتورة عائشة عبد الرحمن نموذجًا فريدًا يجسِّد ما تحتاجه مصر في حاضرها ومستقبلها من قدوة نسائية واعية. فقد كانت أول امرأة في التاريخ تحاضر في جامعة الأزهر الشريف، ذلك الصرح العلمي العريق الذي ظل قرونًا حكرًا على الرجال، لتكسر القاعدة بثقة وعلم غزير. ومن خلال عملها الجامعي أستاذةً للتفسير والدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس، ورئيسةً لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، جسّدت بنت الشاطئ معنى الانتصار للعلم والإصرار على إثبات الذات في وجه مجتمع لم يكن يُسهل الطريق أمام المرأة. لقد جمعت بين شخصية الباحثة الصارمة والأديبة المتذوقة، فكانت صوتًا أكاديميًا رصينًا يحمل رسائل تتجاوز حدود القاعات الدراسية.

مسيرة “بنت الشاطئ” الاستثنائية بكل المقاييس. فتاة وُلدت في دمياط لأسرة أزهرية محافظة، وحفظت القرآن الكريم في طفولتها، ثم تلقت تعليمها الأولي في المنزل لتصبح الأولى على مستوى الجمهورية في شهادة الكفاءة للمعلمات. وفي زمن لم يكن التعليم الجامعي للفتيات أمرًا مألوفًا، أصرت على مواصلة الطريق حتى حصلت على ليسانس الآداب من جامعة فؤاد الأول عام 1939، فالماجستير عام 1941، ثم الدكتوراه عام 1950 تحت إشراف عميد الأدب العربي طه حسين. فانتقالها من بيت صغير في دمياط إلى قاعات الجامعة، ثم إلى منصة التدريس في أرقى المؤسسات الأكاديمية العربية، لم يكن مجرد رحلة تعليمية بل معركة إرادة، أثبتت فيها أن العلم لا يعرف قيودًا حين يُصاحبه طموح وصبر.

لقد كانت ” الدكتورة عائشة” حالة ثقافية وفكرية متكاملة، فهي لم تكتفِ بالتدريس أو البحث العلمي، بل انخرطت في قضايا مجتمعها بروح المثقف الملتزم. فمن خلال مقالاتها في جريدة الأهرام، والتي كانت توقعها باسم مستعار “بنت الشاطئ”، ربطت بين هويتها الشخصية وتجربتها الإنسانية وبين قضايا الوطن. كان هذا الاسم بالنسبة لها جسرًا يربط طفولتها على شاطئ دمياط بوعيها الفكري والأدبي، وفي الوقت ذاته وسيلة لتفادي غضب والدها الأزهري.

هنا تظهر مرونة فتاة وجدت طريقة تحافظ بها على توازنها بين طموحها الشخصي واحترامها لتقاليد أسرتها، دون أن تقود ثورة زائفة قد لا تحقق بعضًا من صدى يسمعه أحد، وذات الوقت دون أن تتخلى عن طموحاتها الكبرى، تكتب في التراث تؤلِّف الكتب، تصدح برأيها أدبًا وأكاديمية.

أما رصانتها الفكرية فقد تجلت في مواقفها وآرائها التي اتسمت بالاتزان والموضوعية. ففي لقاء تلفزيوني نادر عام 1994، رفضت أن توصف بأنها من “جيل الرائدات”، وفضّلت أن تصف نفسها بأنها من “جيل الطليعة”، تقديرًا منها لمن سبقنها مثل الأديبة مي زيادة. ومع ذلك، كانت تعي أن طريقها كان أشق من طرق رفيقاتها، فهي ابنة كُتّاب ريفي بينما درست صديقتها سهير القلماوي في مدرسة أمريكية، مما جعل رحلتها أكثر صعوبة، لكنه منحها صلابة أكبر. وهكذا، جمعت بنت الشاطئ بين مرونة تجعلها قادرة على التكيف مع تحديات مجتمعها، ورصانة تجعلها قادرة على الدفاع عن مكانتها العلمية والفكرية بجدارة.

لقد افتقدنا مثل هذه الشخصية التي تتعلَّم وتعلِّم، تُرشد وتستزيد من العلم والثقافة، تترقّب الأوضاع بعين الناصح الأمين؛ المثال الذي يُحتَذى به في تقدير الوضع والحالة، لا البحث عن نجومية أو لقطة في خِضَمِّ الصور. لكن.. وآسفاه اليوم، حين تخرج بعض نماذج – تدَّعي الوعي – ربما تهدم وتكسِر الأسس، وتسعى لا نحو “الحرية” بل نحو التحرر، لا نحو الانضباط بل نحو الاستهتار، نحو امرأةِ “لا يجب أن تكون”، ليس “كما وَجَبَ أن تكون”.

دكتور حامد بدر

دكتوراة الإعلام “الإذاعة والتليفزيون” جامعة المنصورة

Facebook
X
WhatsApp
Telegram

كلمات مفتاحية

اخترنا لك