في قلب مصر، حيث تتقاطع الأزمنة بين تراث اجتماعي راسخ وتطلعات نحو مستقبل أكثر إنصافًا، يتجدد النقاش حول قانون الأحوال الشخصية، ذلك القانون الذي يلامس أدق تفاصيل الحياة: الحب، الزواج، الأبوة، الطلاق، والحضانة.
قانون الأحوال الشخصية ليس مجرد أوراق في دفاتر المحاكم، بل هو خارطة العلاقات الإنسانية التي نُبني عليها الأمان والاستقرار الاجتماعي. واليوم، يقف هذا القانون على عتبة تغيير كبير، حيث تسعى الدولة لتعديله بما يُراعي توازنًا حقيقيًا بين حقوق المرأة، وكرامة الرجل، ومصلحة الطفل.
التوازن المنشود: معركة الحقوق أم شراكة الحياة؟
لطالما وُضع القانون القديم – المُستمد في معظمه من فقه تقليدي وواقع اجتماعي تجاوزه الزمن – في قفص الاتهام، لا لأنه ظالم بطبيعته، بل لأنه أغفل تطور العلاقات الإنسانية وتعقيداتها في العصر الحديث.
التعديلات المقترحة تسعى إلى:
حماية المرأة من الطلاق الغيابي وحرمانها من حقوقها الشرعية، من خلال توثيق الطلاق بشكل فوري.
رد الاعتبار للأب في مسألة الحضانة، عبر إعادة ترتيب الأولويات لتكون الولاية التربوية تشاركية لا خصامية.
ضمان مصلحة الطفل كأولوية عليا، من خلال استقرار نفسي وتربوي لا تحدده فقط صلة الدم، بل القدرة الفعلية على الرعاية.
مصلحة الطفل: لا غالب ولا مغلوب
في خضم النزاع بين الأبوين، غالبًا ما يُصبح الطفل رهينة مشاعر الانتقام والخذلان. وتُعيد التعديلات المطروحة ترتيب أوراق الحضانة، بحيث لا تكون المعركة على الحضانة مكافأة أو عقوبة، بل مسؤولية تُمنح للأصلح، أيًّا كان جنسه.
وتُقترح آلية “الرقابة التربوية المشتركة” بإشراف قاضٍ مختص أو خبير أسري، تتيح للطرف غير الحاضن المشاركة في اتخاذ قرارات كبرى كالتعليم والسفر والرعاية الصحية.
تعديلات جوهرية.. وباب للرحمة
1. إلغاء الطلاق الشفهي
ما لا يُوثق، لا يُعتد به.
اقتراح بإلغاء الاعتداد بالطلاق الشفهي غير الموثق، حماية للمرأة من تلاعب البعض، وضمانًا لحقها في النفقة والحقوق القانونية.
2. النفقة بكرامة لا بصدقة
رفع الحد الأدنى للنفقة بما يتناسب مع مستويات التضخم المعيشي، وربطها بدخل الزوج الحقيقي، مع إنشاء صندوق دعم عاجل للأطفال المتضررين من تخلف الآباء.
3. لا تقييد لتعدد الزوجات
من المهم التأكيد على أن القانون ليس معنيًا بفرض قيود على ما أحله الشرع، كمسألة تعدد الزوجات، طالما أن الحقوق محفوظة والعدالة قائمة. فالحل ليس في المنع، بل في الوعي، والاختيار الحر، والمحاسبة حين يُساء الاستخدام.
دون المساس بجوهر الشريعة، يُقترح أن يكون التعدد مرهونًا بتحقيق مبرراته، حفاظًا على تماسك الأسرة الأولى واحترامًا لإنسانية المرأة.
استراحات جديدة للعلاقات: من الطلاق إلى “التهدئة”
ربما آن الأوان للخروج من منطق “المعارك القضائية” إلى مسارات تصالحية جديدة، تُعيد بناء الثقة أو تُنهي العلاقة بكرامة:
جلسات إصلاح الزامي
إقرار جلسات استماع إصلاحية بإشراف أخصائي نفسي وأسري، قبل الموافقة على أي طلاق نهائي، خاصة في حالات وجود أطفال.
الطلاق الذكي
فكرة جديدة تُعرف بـ “الطلاق الذكي”، حيث يُسمح للأزواج باتفاق حضاري مُسبق يُنظم تفاصيل الانفصال ماليًا وتربويًا، يقرّه القاضي إذا كان عادلًا ومتوازنًا.
إعادة تعريف “الزواج الناجح”
لماذا لا يُدرج ضمن برامج الزواج “دورات إلزامية” حول الذكاء العاطفي، وإدارة الخلافات الزوجية، وتربية الأطفال؟ ليس تدخلًا في الحرية الشخصية، بل استثمار في بنية المجتمع.
القانون ليس سيفًا.. بل ميزانًا
في نهاية المطاف، لا يجب أن يكون قانون الأحوال الشخصية أداة للصراع بين الرجل والمرأة، بل وثيقة شراكة تُنظم علاقتهما، سواء في حالة الارتباط أو الانفصال.
فلا المرأة خصم للرجل، ولا الأب عدوًا للأم. جميعهم شركاء في بناء طفل سليم، ومجتمع ناضج، وأمة قوية.
خاتمة: نحو أفق إنساني جديد
التعديل المرتقب لقانون الأحوال الشخصية في مصر فرصة ذهبية لـ إعادة صياغة العلاقات لا فقط بنصوص قانونية، بل بروح عدالة ناعمة، تلمّ شتات النفوس وتمنح الجميع فرصة للبدء من جديد، دون ندوب.
القلوب لا تُحكم بالقوانين، لكنها حين تُظلم بالقانون، تفقد احترامه.
