جدل لا يهدأ في رحاب القانون المصري في دهاليز المحاكم، وعلى منصات النقاش العام، وفي أروقة البرلمان، يطلّ “الخلع” بين الحين والآخر كضيف ثقيل يثير العاصفة.
فهو ذلك الحق الذي مُنح للمرأة المصرية منذ مطلع الألفية، ليكون طوق نجاة من حياة زوجية أرهقتها المرارة واستحال استمرارها. غير أنّ هذا الباب، الذي فُتح لتتنفس منه النساء بعض العدل، لم يسلم من محاولات الغلق ولا من دعوات التضييق. وهكذا صار الخلع كلمة تتردد في الصحف والندوات: هل يُلغى؟ هل يُقيَّد؟ أم يظل كما أراده الشرع، رحمةً وميزانًا؟
جذور الحق وسمو التشريع
الخلع ليس نزوة عابرة ولا امتيازًا طارئًا؛ إنه حكم شرعي أصيل، شهدت به السنة وأقرته الشريعة، فكان على المشرّع المصري أن يصوغه في قانون عام 2000، فينزل من علياء النصوص إلى أرض الواقع. ولأنه طلاق بائن لا رجعة فيه إلا بعقد ومهر جديدين، فقد أُحيط بجملة من الضمانات، أبرزها أن يكون الحكم به نهائيًا لا يقبل الطعن، كي لا تتحول قاعة المحكمة إلى ساحة مراوغة ومماطلة.
محاولات الإلغاء… صدى لا ينطفئ
منذ أن خطّ المشرّع تلك المادة في سجل القوانين، والخلع يواجه محاولات متكررة للإلغاء. في عام 2012، حاول نوابٌ أن يشطبوه من القانون بدعوى “حماية الأسرة”، غير أن لجنة التشريع وقفت صلبة، وأكّدت أن من ينكر الخلع إنما ينكر حكمًا شرعيًا ثابتًا. ورغم مرور السنين، لا يزال الصدى قائمًا: مقترحات تُرفع، وصيحات تُطلق، بعضها يطالب بإلغائه كليةً، وبعضها يضيّق مجالاته ويقصره على حالات بعينها.
بين قيد وحرية
في الآونة الأخيرة، خرجت أصوات برلمانية تقترح أن يُقصر الخلع على حالات محدودة؛ كالعجز الجنسي أو امتناع الزوج عن الإنفاق أو ارتكابه للخيانة. غير أن جمعيات نسائية اعتبرت هذه الطروحات انتكاسة قاسية تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فيما وصفها محامون وحقوقيون بأنها “ذكورية متنكرة في ثياب القانون”. وعلى الضفة الأخرى، هناك من يرى أن ضبط الخلع ضرورة لحماية الأسرة من التفكك السهل والسريع. وهكذا ظل الخلاف محتدمًا بين من يراها قيودًا على الحرية ومن يعدّها صمامات أمان.
الأزهر… صوت الشرع وحارس النصوص
في خضم هذا الجدل، يخرج الأزهر الشريف ثابتًا كالجبل، ليؤكد أن الخلع حق شرعي راسخ لا يزول ولا يُلغى. فليس من الحكمة أن يُسدّ باب فرجٍ فتحه الشرع للنساء، بل الحكمة أن تُرشد الممارسة وتُحسن الآليات. وفي هذا الموقف ما يبدد أوهام الإلغاء، ويؤكد أن المعركة ليست مع الشرع، بل مع كيفية تطبيق القانون في حياة الناس.
المجتمع… مرآة الانقسا
في الشارع، تنعكس القضية وجوهًا متعددة: رجالٌ يرون في الخلع سيفًا مسلطًا على رقابهم، يخشون أن يتحول الزواج إلى عقد هش يمكن تمزيقه بكلمة. ونساءٌ يرونه الأمل الأخير حين تتآكل الحياة الزوجية، فلا يجدن بدًا من التضحية بحقوقهن المالية للخلاص. وبين هؤلاء وأولئك، يقف المجتمع منقسمًا، تتجاذبه العاطفة والعقل، الحزم والرحمة.
خاتمة الطريق
حتى اليوم، لم يُلغَ الخلع، ولم تُقرّ التعديلات المقترحة، وما يدور لا يتجاوز أروقة النقاش وأوراق المقترحات.
لكن المؤكد أن الخلع سيظل حاضرًا ما دامت الشريعة حاضرة، وأن أي إصلاح لقوانين الأحوال الشخصية لا بد أن يُبنى على التوازن لا الهدم، وعلى الرحمة لا القسوة.
فالأسرة ليست قيدًا ولا سجنًا، بل عقد مودة وسكن.
وإذا ما انهارت أركانها، فإن الخلع يظل وسيلة من وسائل العدل، بابًا من أبواب الرحمة، ونافذة يطل منها الأمل في حياة جديدة
قد يختلف الناس في تفاصيل الخلع، لكنهم لا يختلفون على أن العدل أساس الملك، وأن الرحمة جوهر الشريعة.
وما الخلع إلا تجسيد لهذا المبدأ، يظل قائمًا ما دام الإنسان بحاجة إلى ميزان يرد كفة الظلم ويقيم العدل بين الرجل والمرأة.
المستشار محسن السبع
المستشار القانوني لحملة اريد حلا والخبير في قضايا المجتمع والأسرة المصرية